الدكتور صالح بن قربة

الجزائر

من الحقائق المعروفة في تاريخ الموحدين عامة أن المباني والمؤسسات التي أقاموها، في بلاد المغرب الأقصى والأندلس، كثيراً ما يشترك في إنجازها خليفتان أو أكثر، مما يدل على أهميتها ودورها في حياة المجتمع عامة، وتاريخ خلفاء الدولة بشكل خاص. ومن بين هذه المؤسسات الدينية المساجد الجامعة، التي حظيت بعناية هؤلاء الخلفاء واهتمامهم. ومن هذه الزاوية، يمكن اعتبارها من أهم الأحداث البارزة في تاريخ المغرب الإسلامي على عهد الموحدين، سواء كان ذلك من الناحية المعمارية والعمرانية أو الزخرفية، نظراً للتطور الذي عرفته هذه الأخيرة، إنشاء وتخطيطاً وعمارة، بحيث أصبحت فيما بعد الأنموذج الذي احتذته الدول الثلاث الحفصية والمرينية والزيانية في مشاريعها العمرانية.

ومن الظواهر اللاَّفتة للنظر في فلسفة الموحدين ومنهجهم السياسي، اتجاههم نحو التجديد والابتكار في كافة المجالات الفكرية والعلمية والفنية؛ إذ يرجع إليهم الفضل في خلق طراز فني مغربي متميز بخصائصه وأساليبه. وهكذا فإن الحديث عن مخلفاتهم الأثرية التي لا تزال قائمة حتى اليوم، يجرنا إلى بحث ودراسة أحد أهم معالمهم الدينية بمدينة مراكش، وهو جامع الكتبية الذي ما يزال ماثلاً للعيان، يشكل نقطة جذب للباحثين والسواح على حد سواء.

والجامع في حالته الراهنة، على الرغم مما طرأ عليه من تغيير وإصلاح، ما يزال بمئذنته الرائعة يعد من أشهر المعالم الإسلامية المغربية في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي.

وقبل أن نسهب في ذكر تفاصيل تخطيطه وعمارته وما اشتمل عليه من ظواهر معمارية وزخرفية جديدة، لابد لنا من استعراض تاريخ بنائه ما ورد في النصوص التاريخية، لأن ذلك سيساعد على فهم العديد من المسائل التي تتعلق بهذا الأثر الخالد.

ومن بين المؤرخين، الذين اهتموا بتاريخ هذا الأثر([1])، نذكر صاحب كتاب "الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية"([2])، الذي يشير إلى أنه بعد انتصار الموحدين على المرابطين، ودخولهم مراكش حاضرة الدولة سنة 541 هـ/ 1146 م، ظلت المدينة ثلاثة أيام لا يدخلها داخل ولا يخرج منها خارج: »وأبى الموحدون دخولها، لأن المهدي كان يقول لهم: لا تدخلوها حتى تطهروها. فسأل الموحدون الفقهاء عن ذلك، فقالوا لهم: تبنون أنتم مسجداً آخر مكان ذلك«.

وحينئذ، أمر عبد المؤمن بن علي ببناء جامع آخر في قصر الحجر، هدّم الجامع الذي قد بناه الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين بأدنى المدينة. فلما تم بناؤه، جعل فيه سباطاً يتردد عن طريقه بين القصر والجامع، ونقل إليه منبراً عظيماً كان قد أمر بصنعه في الأندلس من العود والصندل الأحمر والأصفر وصفائحه من الذهب والفضة، وأقام للمسجد مقصورة من الخشب لها ستة أضلاع تسع أكثر من ألف رجل([3]). وكان الذي تولى صنع المقصورة والمنبر الحاج يعيش المالقي([4]).

فهل المعلومات التي أوردها هذا المؤرخ بخصوص هذا الجامع تمثل حقيقة ما وقع بالفعل، أو أن هناك ما يخالفها عند مؤرخين آخرين تناولوا تاريخ تشييده؟ ويعتبر صاحب كتاب الاستبصار" على غاية من الأهمية في هذا الإطار، إذ يذكر معلومات قيمة توضح مراحل البناء وأهم العناصر المعمارية التي ألحقت بالجامع، حيث يقول: »وبنى فيها جامعاً عظيماً. ثم زاد فيه مثله أو أكثر في قبلته، كان قصراً ورفع بينهما المنار العظيم الذي لم يشيد في الإسلام مثله وأكمله ابنه وخليفته أبو يعقوب«([5]). وبناء على ذلك، فإنه يمكن أن نستخلص من منطوق النص أن عبد المؤمن بن علي قد شيّد مسجدين جامعين للكتبية بمراكش، الواحد تلو الآخر. فقد شرع في بناء الجامع الأول حوالي سنة 541 هـ/ 1146 م، ثم هدّمه بسبب انحراف قبلته عن الاتجاه الصحيح نحو مكة. والظاهر أن تلك الأشغال استمرت فترة قصيرة، لدرجة أنه لم يشرع في بناء مسجد الكتبية الحالي إلا في سنة 548 هـ/ 1153 م([6]).

لكن صومعة الجامع، لم يشرع في بنائها إلا في عهد خليفته وولي عهده أبي يعقوب يوسف الأول، وأتمها وأكمل بناءها أبو يوسف يعقوب المنصور، بناءً وزخرفة، لتصبح الأنموذج الذي احتذاه بناة صومعتي إشبيلية والرباط([7]).

ومهما يكن من أمر، فلا شك في أن التوسعية العظيمة التي خص بها هذا الجامع (الكتبيين) تعكس - بطبيعة الحال - ذلك التوسع العمراني الذي شهدته مدينة مراكش، خلال هذه الفترة التي استقبلت فيها المدينة عدداً هائلاً من قبائل المصامدة، التي انضوت تحت شعار العقيدة الموحدية([8]).

وبعد أن عرفنا ظروف التأسيس، وإصرار الموحدين على نبذ كل ما يمت بصلة للمرابطين حتى في مجال العمارة الدينية، وإقامة مؤسسات جديدة تميّزهم وتنفرد بخصائص فنية لم تكن موجودة من قبل. ننظر الآن في مخطط جامع الكتبية، لتعرّف ما اشتمل عليه من ظواهر معمارية جديدة أكثر ما يكون التعرّف.

يتربع الجامع الموحدي الجديد على سطح مستطيل الشكل، يتميز جانبه الشمالي مع الحائط القبلي لجامع الكتبية الأول بانحرافه قليلاً باتجاه الشمال الشرقي.

ونلاحظ في تصميم الجامع بشكل عام أن تخطيطه يشبه إلى حد ما تخطيط المساجد المرابطية، كالمسجد الجامع بالجزائر، وجامع القرويين بمدينة فاس، ولا سيما في مساحة الصحن([9]) التي يقع عن يمينها ويسارها مجنبتان، تتألف كل واحدة منهما من أربع بلاطات، كما هو الحال في المثالين السابقين، وهي قرينة مادية تفند ادعاء الباحث عثمان عثمان إسماعيل، الذي ذهب فيه إلى أن تخطيط الجامع هو في الأساس تطوّر منطقي لمخططي جامع تازة وجامع تينمل([10])، ولعل ذلك التطور يكمن في جانبيه المعماري والزخرفي. وعلاوة على ذلك، نجد على جانبي بلاط المحراب مجموعة من البلاطات تعادل ضعف عدد بلاطات هذين الجامعين، مع اختلاف بسيط يكمن في أن البلاطات الأربع الأخيرة من كل جانب منها أقل اتساعاً من البلاطات الأربعة على يمين بلاط المحراب ويساره مباشرة ([11]).

ولعل الظواهر المعمارية الجديدة التي تستوقف الدارس في بلاط المحراب، أو أسكوب محراب جامع الكتبية، هي طريقة تغطيته بخمس قباب وزعت على النحو التالي: قبة أمام المحراب، وقبتان على كل من الأسطوان الرابع التالي على يمين أسطوان المحراب ويساره، على نفس النمط المستعمل في نظام التغطية بجامعي تازة وتينمل. أما القبتان الرابعة والخامسة، فتعلوان الأسطوانين المتطرفين في نهاية أسكوب المحراب على الجهتين الشرقية والغربية، بينما يفصل بلاطات الجامع التسع عن الزيادة الجانبة وعائم على هيئة متعامدة (مصلبة الشكل)، محدّد مخطط بيت الصلاة.

ومن الظوهر الأخرى التي تستحق الدراسة في عمارة الجامع، ظاهرة تعدّد مواد البناء وتنوُّعها، بحيث نجد أن معظم عناصره المعمارية، من جدران وقباب، قد بنيت بقطع الحجارة غير المهذبة، وهو عكس ما نلاحظه في أبوابه الشرقية التي شيدت بالآجر([12])، بينما استعمل في بناء أبوابه الغربية قطع الحجارة مع الآجر.

أما قباب البلاطة الوسطى، فقد شيدت بمادة الأجر فقط. لكن القباب القائمة على أسكوب المحراب استعملت فيها الحجارة دون سواها. والأمر يختلف تماماً في الحائط الشرقي، إذ بني بقطع من الحجارة المصفوفة تصفيفاً رائعاً جميلاً.

والملاحظ في هذا الصدد أن الحائط الشمالي الغربي كله من الإسمنت([13])، وهو جدار يفصل اليوم الجامع بساحة واسعة، ويتوّج المبنى من الأعلى صفوف من الأجر، وهي نفس المادة التي استعملت في كل من الدعائم أي دعائم بيت الصلاة وكذا الصحن والعقود([14]).

ويتبين مما تقدم مدى قدرة المعمار المغربي ومهارتها، في التعامل بذكاء وروية في طريقة البناء بمواد مختلفة، أكسبت المبنى صلابة وأضفت عليه جمالاً وروعة.

والحديث عن جامع الكتبية يستوجب منا الوقوف عند بعض المزالق والأخطاء التي وقع فيها بعض الباحثين الغربيين، من أمثال هنري تيراس (H. Terrasse ) عند دراسته لهذا الأثر.

فقد حاول هذا الأخير ربط تخطيط الجامع بقبابه الخمس على أسكوب القبلة، بتخطيط الكنيسة ذات القبة، مدعياً أن قباب الموحدين ظاهرة معمارية جديدة لا تثير مشكلة معمارية أساساً. وهي - حسب رأيه - لا تعدو كونها زينة وحلية زخرفية فقط. ويمكن الرد عليه ببساطة لدحض رأيه هذا بالرجوع إلى الواقع الأثري لعمائر الموحدين، لأن القباب الضخمة الكبيرة لا تؤلف عناصر معمارية، ولا تعدو أن تكون مواضع للزخرفة فحسب. فعدم إدراكه للفروق الواضحة بين القباب من حيث هي كتل هندسية، ووظيفتها في عمارة المساجد الجامعة المغطاة بأشكال هرمية في العمارة المغربية بشكل خاص، هو الذي أوقعه في هذا الخطإ([15]).

وقد غاب عن طيراس (Terrasse) أنه لا يوجد هدف إسلامي يرمي إلى بناء قبة ضخمة على مساحة واسعة كما هو الحال في آيا صوفيا بإسطنبول، تتيح للفنانين رسم صور القديسين والقصص الديني، كما هو معروف وشائع في الفن المسيحي.

والمساجد، في جوهرها، تعبر بعمق عن توجه الثقافة الإسلامية الأصلية. وبعبارة أدق، تعبر عن انسجامها مع روح الإسلام وجوهر العقيدة الإسلامية الأصلية بشكل خاص تتجلى صورها في الهندسة المعمارية المتفردة في مساجد مراكش والرباط، وغيرها.

وهكذا، ومع اعتراف الباحث السابق بحقيقة الأمر، يعود من جديد ليطرح »فكرة المجاز القاطع« (Transept) الذي يحف بجدار القبلة بقبابه الثلاث أو الخمس([16])، ولكن دون جدوى لعجزه عن إثبات الدليل.

ويكفي للدلالة على أصالة عبقرية المعمار المسلم ابتكاره للأساليب المعمارية، لرفع السقوف، وتخفيف الضغط، وتحقيق الإضاءة. وهو هدف - كما يشير أحد الباحثين إليه - حققته العمارة الإسلامية عامة، التي اعتمدت في ابتكارها على القباب بما هي عنصر معماري بحت([17]).

وعلى الرغم مما قيل في هذا الموضوع، فيبدو أن للباحث الإسباني جوميث مورينو رأياً آخر في المسألة. فهو يرى أن القبة التي تتخللها منافذ - أي شبابيك - هي عنصر إسلامي خالص، وأنها - أي القبة - »لم تدخل البازيليكا إلا في عصر متأخر«([18]).

ومن الغريب حقاً أن يتراجع الباحث هنري طيراس عن رأيه السالف الذكر، ليقر من جديد، ويعترف صراحة بأن المساجد الموحدية عمل هام وفريد، ولا سيما تخطيطها المتقابل الذي لم يكن وليد الصدفة (عفوياً)، وإنما جاء ظاهرة معمارية جديدة لتعبر حقيقة عن القيمة الدينية لأجزاء المسجد المختلفة. ويبدو جلياً أنه لا يوجد في تاريخ الإسلام تخطيط آخر أنسب منها للضروريات. وهي تعبر بعمق عن توجه الثقافة الإسلامية الأصيلة، وبتعبير أدق عن انسجامها مع روح الإسلام وجوهر العقيدة الإسلامية بشكل خاص، حيث تتجلى في الهندسة المعمارية الموحدية المتميزة في مساجد مراكش والرباط وغيرها.

وهكذا، فعلى الرغم من هذا الباحث بحقيقة الأمر، فها هو يعود ثانية ليثير فكرة »المجاز القاطع« (Transept) الذي يحف بجدار القبلة، بقبابه الثلاث أو الخمس، ولكن دون جدوى، لعجزه عن إثبات الدليل القاطع.

ومهما يكن من أمر، فإن العمارة المغربية بمظاهرها المعمارية الجديدة، استرعت اهتمام الباحثين الغربيين؛ فأقبلوا على دراستها بحثاُ عن أصولها ومصادرها المعمارية والزخرفية، لعلهم يرصدون فيها مظاهر الاقتباس والتقليد.

تعد مئذنة (صومعة) الكتبية، من أروع المآذن الموحدية، وأجملها تخطيطاً وبناء وزخرفة. فهي الأنموذج الذي اتخذته المآذن المغربية مثالاً لها.

والمئذنة - بشكلها ومظهرها الأخاذ - ما تزال قائمة حتى اليوم تحكي تاريخ بناتها وتترجم عبقرية الفنان المغربي المسلم، الذي أبدع فيها أيَّما إبداع، وطوّر أساليب البناء والزخرفة معاً، ليخرج هذه الروائع المعمارية الخالدة في صور جديدة، خلّدت مسيرة تاريخه الفني، الذي نقرأه اليوم بإمعان، ونتأمل في أعماله التي بوأته هذه المكانة المرموقة بين طوائف المجتمع المغربي الأندلسي وعناصره الفعالة.

ومن غير شك ، فإن تلك الأعمال الرائعة التي أنجزها أصبحت فيما بعد مصدر إلهام لمعماريِّي وفناني المغرب الإسلامي، فيما أنجزوه من مباني وعمائر ومصنوعات وفنون.

والحديث عن هذه المأثرة يجرنا إلى بحث ودراسة تاريخ بنائها ومكوناتها المعمارية وعناصرها الزخرفية.

شهد تاريخ بناء المئذنة ثلاث مراحل متتالية، شملت فترة حكم الخلفاء الثلاثة الأوائل، إذ بدأت أعمال البناء على عهد مؤسس الدولة عبد المؤمن بن علي سنة 548 هـ/ 1153 م. واستمرت تلك الأعمال في فترة حكم أبي يعقوب يوسف (558 - 580 هـ/ 1162 - 1184 م)، وتمت أشغال البناء نهائياً أيام أبي يوسف يعقوب المنصور (580 - 595 هـ/ 1184 - 1198 م)، الذي أكمل القسم الأعلى من المئذنة، وهو ما يفسر لنا أهمية هذا العمل المعماري الخالد وضخامته.

أقيمت المئذنة في الركن الشمالي الشرقي من الجامع. فهي تقع ما بين الجامع القديم والجامع الحالي([20]).

وعلى الرغم من أن المادة التي استعملت في بنائها، كانت من الحجارة الرديئة التي تزداد رداءة كلما ارتفعت المئذنة. ولذلك كسيت بما يمسك كتلتها المفككة. وحتى صنج العقود المشكلة تكاد تكون متساوية، مما يكشف عن خشونة في البناء. ومع ذلك، فالمئذنة تعتبر من روائع العمارة الإسلامية. وهي، بشكل عام، تتميز بأبعادها ومقاساتها وهيئتها المعمارية، فضلاً عن تركيبتها الداخلية ونمط زخارفها، بدنها مربع الشكل على طراز المآذن المغربية التي أنشئت قبلها، جدرانها مستقيمة تتوجها شرفات مسننة متماثلة، باستثناء مقاساتها وزخرفتها([21]). طول ضلعها 12,5 متراً. ويبلغ ارتفاعها من سطح الأرض إلى أعلى العمود المعدني (الجامور) ([22]) حوالي (67,70 متراً).

ولذلك عدت الكتبية، بما اشتملت عليه من طول وارتفاع شديدين، أعلى مئذنة في المغرب الإسلامي، وثاني مئذنة في العالم الإسلامي بعد مئذنة قطب منار بدلهي في الهند، التي يبلغ ارتفاعها 73 متراً([23]).

وعلاوة على ما سبق، فهي تعتبر من أجمل المآذن المغربية بالنظر لمقاساتها المتميزة التي طبقت فيها نسبة 1: 5، بمعنى أن طول ضلعها يساوي خمس (5/1) الارتفاع الكلي لها.

وقد روعيت هذه النسبة نفسها في مئذنتي »الخيرالدا« بإشبيلية، بالأندلس وحسَّان بالرباط([24]).

أما من حيث تكوينها المعماري، فهي تتألف من برجين رئيسين، وهما البدن والجوسق، وهو عكس ما نشاهده تماماً في مئذنتي القيروان وصفاقس بتونس، واللتين يرجع تاريخ بنائها إلى القرنين الثاني والخامس الهجريين/ الثامن والحادي عشر الميلاديين. وتتألف كل واحدة منهما من ثلاثة أبراج متراكبة بعضها فوق البعض. ومن جهة أخرى، فإن شكل مئذنة الكتبية يذكرنا بمئذنة قلعة بني حمّاد التي تعتبر أنموذجاً لها في كثير من الظواهر المعمارية([25]).

أما تركيب المئذنة داخلياً، فيتكوّن من الدرج الصاعد الذي يدور حول نواة مركزية مجوّفة دون مرقاة.

أقيمت فوق النواة المركزية طبقات متوالية من الغرف المتراكبة الواحدة تلو الأخرى، وجميعها تنتهي بقبة وجدران خارجية تدور حول الغرف، وتترسم في دورانها شكل القلب المربع؛ وممر منزلق يمتد مصعداً بين الجدران والغرف، ويلاحظ نفس التصميم في كل من مئذنتي »الخيرالدا« و»حسان«.

فالجدران مطلية بجص أصفر ضارب إلى اللون الرمادي([26])، وتنعكس على صفحته تموجات وضاءة تنسل إلى داخل المئذنة من النوافذ المفتوحة في عرض الجدار.

وهذا الدرج الصاعد يوصل في نهاية المطاف إلى الجزء العلوي من المئذنة المطل على المدينة (مراكش). ومن بين الغرف المقببة السقف، نجد واحدة مغطاة بقبة متقاطعة، وفق التخطيط القرطي المفضل. لكن ضلوعها تتميز بالرشاقة، وتشبه إلى حد كبير قبة جامع تلمسان، مع احتفاظها بالمقرنصات في تجويفها المركزي.

والملاحظة الجديرة بالتسجيل هنا هي اتساع هذا الممر الصاعد الذي يسمح لشخصين بالمرور، وهو مغطى بأقبية نصف دائرية متجاوزة قليلاً، تبرز مداميكها عن الحائط بحوالي 02 أو 03 سم في أغلب الأحوال. وفي كل دورة من دورات هذا الرواق (الدهليز) تتقاطع الأقبية لتكون معاً قبواً متقاطعاً أو متصالباً. وهكذا نستمر في الصعود في الممر الضيق، حيث تصادفنا حواجز غير منتظمة. وبالمقابل، هناك فتحات خارجية لإضاءة المئذنة من الداخل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النوافذ أو الفتحات المشكلة في سمك الجدار محاطة هي أيضاً بأقواس زخرفت من الداخل، وهي تؤلف في تقوسها إحدى الفتحات بالواجهة الجنوبية الشرقية، التي تعد أوسع النوافذ (الفتحات) بالمئذنة وهي غير مقببة.

والجدير بالذكر في هذا الصدد أن المنحدر الداخلي لا يقود أو يقضي حتى أعلى المئذنة، إذ ينتهي في منتصف الجهة الشمالية الغربية ليبدأ السلم الذي يقود إلى سطح المئذنة (أي الجوسق) ([27]).

والملاحظ أنه على امتداد الساحة، لا نجد أي أثر للزخرفة، عدا بعض العناصر الزخرفية النادرة مثل القمريات، أو نوافذ صغيرة لإحدى القباب المتقاطعة مغطاة بزخارف نباتية بارزة، كما هو حال الغصن الأوسط الذي تتوجه زهرة أو حبة من حبات كيزان الصنوب التي شاع استعمالها موضوعات زخرفية عامة.

وهنا لابد من التذكير بملحوظة، وهي أن جل المآذن المغربية التي بنيت قبل هذه الفترة كانت تتوفر على بيت صلاة صغير، كما هو الحال بمئذنة خلف بسوسة بتونس. لهذا البيت باب مفتوح يعبرونه لمواصلة صعود السلم المؤدي إلى أعلى المئذنة.

وإن كانت هذه الظاهرة المعمارية قد عرفت في مساجد المغرب الإسلامي قبل مجيء الموحدين، فقد اختفت تماماً من مئذنة الكتبية التي أصبح تكوينها المعماري الداخلي يحتوي على مجموعة من الغرف المستقلة عددها ستة غرف، ونظام تسقيفها متنوع للغاية([28])، حيث نجد أن الغرفة في الطبقة الأرضية مغطاة بقبة مخروطية الشكل تبعاً للأسلوب الإسلامي الأندلسي. بينما سقفت الغرفة بقبة ذات أخاديد (أي تعاريق)، وهي من أجمل القباب على الإطلاق([29]).

وأن دائرة قاعدتها المسطحة تشبه تماماً القبة التي تقع أمام محراب جامع تلمسان التي تزينها أشرطة متضافرة، لكن أركانها شغلت بحنايا ركنية مقرنصة، أصبحت تشكل عنصراً معمارياً هاماً في العمارة الإسلامية عامة.

كما أصبحت تشكل كل فتحة من فتحات حناياها الركنية عقداً مقرنصاً. لكن الأمر يختلف تماماً في حالة البوائك، التي اقتصرت على عناصر زخرفية بسيطة جداً تظهر في العقد المقرنص الذي يربط الحنايا الركنية نفسها.

أما الغرفة الثالثة، فقد تم تسقيفها بواسطة قبو متقاطع. ونفس الأمر يمكن ملاحظته على الغرفة الرابعة التي نمطت بقبو متصالب متجاوز، بينما نجد العكس تماماً في الغرفة الخامسة التي حول مربع مساحتها إلى مثمن بواسطة الحنايا الركنية تمهيداً لتغطيتها بقبو متقاطع. وتبعاً لذلك، نجد بقية العقود الأخرى على هيئة نصف مستديرة محلاّة بسلسلة من البوائك المفصصة، تحيط بالغرفة في الوسط. ونصل في نهاية المطاف إلى الغرفة السادسة والأخيرة المغطاة بقبة ذات تعاريق، تعد أغنى وأجمل قباب المئذنة (ذات ضلوع متقاطعة) على الإطلاق.

وقد اتبع المعمار في تغطيتها نفس الأسلوب الذي طبق في الغرفة الثانية، بحيث حول مربع مساحتها إلى مثمن بواسطة الحنايا الركنية على هيئة بروز قوي، رسمت أرضيتها بزخارف هندسية لمسافة أربعين (40) متراً. وحتى الموضوعات الزخرفية التي وضعت بين قضبان كانت متشابكة ومتضافرة.

والملاحظ أن أركان الغرفة الثمانية رسمت بحلية زخرفية مستديرة نافرة قوامها زهرة ذات بتلاث مدبّبة، قاعدتها عبارة عن رسم متألف من كورنيش سميك محلّى بخطين أو شريطين متضافرين. وبجانب هذه العناصر الزخرفية، اشتملت القاعدة أيضاً على تشبيكة أو ضفيرة متعدّدة الأضلاع تشبه نظيرتها في تينمل، ولا سيما الزخرفية التي تشغل أسفل القبة المقرنصة في مئذنة حسّان بالرباط.

والملاحظ أن هذا الإفريز العريض الذي يزيّن الكوس (الدف) الذي يسبق القبة نفسها، علاوة على العناصر الزخرفية الأخرى، اعتبرها أحد الباحثين المتخصصين في تاريخ الفنون المغربية في مصر، قاعدة القرن الثاني عشر الميلادي([30]) (أي العصر الموحدي).

ويبدو أن أصول ومصادر هذه الزخارف المضفورة (المشبكات)، والتي سادت واستعملت في الحواشي إلى حدود النهايات، والمتألفة من اثني عشر ذيلاً بدلاً من ثمانية في الكتبية. وكذلك هذه الشبكة من الأخاديد التي يضمها طبق نجميٌّ متعدّد الرؤوس - الأندلس. ذلك أن هذه العروق أو الأخاديد المشعة الساطعة قد ظهرت أول مرة في جامع قرطبة، ثم في قبة مردم بطليطلة.

وهكذا نجد في هذه الموضوعات الزخرفية الجديدة أن كل عرقين متوازيين يربطان كل ضلعين متقابلين من المثمن الذي تقوم عليه القبة ويؤلفان في النهاية ستة عشر عرقاً أو أخدوداً تتشابك وتتقاطع فيما بينهما، مكونة طبقاً نجمياً من ثمانية رؤوس مدببة. وينتهي هذا المثمن في نهايته بقبيبة مقرنصة، على حين نرى مداميكها متجاوزة، وقواعدها خالية من شكل العنصر النباتي المتعرج كما هو الحال في تلمسان([31]).

هذا، على حين نرى أن هذه العروق (الأخاديد) المتشابكة والمتداخلة قد صممت بعناية فائقة، وأنها تبدو في شكل قبة دقيقة ومعقدة كثيراً، لدرجة أن منظرها الزخرفي يختلف تماماً عما هو مستعمل في جامع قرطبة ومسجد باب المردوم بطليطلة.

ومن دراسة مسيرة العمارة العربية الإسلامية ببلاد المغرب والأندلس عامة، والعمارة الدينية على الخصوص، يمكن القول بأنه منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي عرفت القبة المغربية الأندلسية تطوراً كبيراً ظهر جليّاً في تصميمها وتركيبها وعناصر زخرفتها. وقد أصبحت قبة الجامع بتلمسان المثال الذي احتذته قبة الكتبية بمراكش.

ونشير، في هذا الصدد، إلى أن قبة جامع تلمسان المخرّمة الموضوعة أمام المحراب، والمغطاة بزخارف رائعة، تختلف في كثير من التفاصيل عن القبة المظلمة التي تغطي الغرفة السادسة ذات الأخاديد بمئذنة الكتبية. ومع ذلك، فإننا لو جرّدنا هذه القبة من كسوتها الزخرفية، لتجلت لنا بوضوح أوجه الشبه بين القبتين المذكورتين سابقاً. ففي قبة تلمسان أقيمت على كوس أو دف يتكوّن من اثني عشر شقاً، بدلاً من ثمانية في قبة الكتبية. ونلاحظ أن ضفيرتي (أي شبكة) العروق تحتضنان نجمة (نجماً) متعددة الرؤوس.

ويبدو أن ظهور هذه المنظومة الزخرفية المشعة للمرة الأولى كان في قبة محراب جامع قرطبة وباب المردوم بطليطلة([32]).

وكما هو الشأن في أي موضوع زخرفي، نجد أن عنصر النجوم المتعدّدة الرؤوس، أدَّى دوراً كبيراً في تحويل الخطوط الزخرفية البسيطة القرطبية إلى خطوط معقدة في أركان المساحة المربعة بالكتبية. وهذه الظاهرة الزخرفية ذاتها يمكن ملاحظتها في تلمسان، حيث أصبحت الحنايا الركنية المقرنصة تفتح بعقود من المقرنصات، وقد احتلت مكانها تحت العروق مباشرة([33]).

والاختلاف بين تركيبة القبتين واضح للغاية، إذ نجد القبة التلمسانية تنتهي بقبة ذات مقرنصات كبيرة المقاسات، وهي اقتباس قرطبي كما سبق أن ألمحنا إلى ذلك في الصفحات السابقة؛ بينما القبة المقرنصة القائمة على تقاطع العروق مقاساتها بسيطة في الكتبية.

ويتبين مما تقدم أن ظاهرة القبة ذات الأخاديد صارت الأنموذج المفضل في البنايات الدينية عامة، حيث شاع استخدامها، وحلت في كل موضع من المبنى، حتى في قاعة بيت الصلاة.

وما دمنا بصدد الحديث عن هذه الظاهرة المعمارية التي شغلت المعمار الموحدي في هذه الفترة المتميزة من تطور أساليب البناء والزخرفة، لابد من إبداء ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن ضلوع قبة جامع تلمسان بنيت من الآجر، وبالتالي لا تتوفر على حشوات من الجص المقطع، على حين نجدها في الكتبية مشيّدة من الحجارة تحت طلاء نموذجي يغطي ثقل القبة([34]).

أما في جامع حسّان بالرباط، فإن القباب التي تغطي غرف المئذنة نصف مخرّمة أو غير تامة البناء، وهو ما يفسر لنا الوظائف الزخرفية التي تشغلها في هذه المباني. ذلك بأن المهندسين المعماريين أثناء القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي قد أولو عناية خاصة للقبة المضلّعة ذات التعاريق أو القبة ذات المقرنصات بشكل عام.

وخلاصة القول إن تكوين مئذنة الكتبية معمارياً، وتركيبتها الداخلية المتكونة من منحدر متصاعد دون مرقاة، وغرفها ذات التخطيط المربع، ونظام تسقيفها المتنوع من أقبية وقباب تقوم على المثلثات الكروية المنخفضة المشيّدة من الآجر على مداميك متحدة المركز (بواسطة كتل ضخمة)، كامتياز قبابها بالمقرنصات اللاّفتة للأنظار. وعلى الرغم من استعمال هذه الأنماط البنائية الجديدة التي تكشف لنا عن مدى التطور الذي بلغه المعمار والفنان المغربيان في مجال العمارة والفنون التطبيقية على عهد الموحدين، فإن الحنايا الركنية التي اتخذتها وسيلة لتحول المربع إلى مثمن لإقامة هذه السلسلة من القباب داخل المئذنة، فهي لا تمثل أدنى قيمة معمارية، بدليل أن أركان غرف المئذنة نفسها مقفلة أو محبوسة في قاعدة قبابها بواسطة القطع الخشبية التي حولت المربع إلى مثمن.

ونفس الظاهرة يمكن ملاحظتها على زخارف الحنايا الركنية الجصية الملصقة في الأقواس الملساء في الفتحات داخل المئذنة، وكذا في العقود الصغيرة الصمّاء. وبجانب ذلك، نرى أن العقود تنكسر في السقوف الثلاثة السفلية في الواجهات الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية.

تميزت العقود المفصصة المستعملة في زخرفة المئذنة، بشكل عام، بنمطين اثنين: عقود نصف دائرية أو مستديرة، وعقود منكسرة، ويبدو أن النمط الأول استعمل بنفس الكيفية في »باب أجناو«. ويتألف من فصوص صغيرة متساوية بالتناوب أو بالتعاقب، فنجد فصين مطليين (مدهونين)، تقابلها ضفيرة عريضة وعقود أخرى أكثر تعقيداً ملبسة بأشكال طبيعية. أما العقود التي تزيّن الأوجه الجنوبية الشرقية والشمالية الغربية، فهي تتكون من سبعة عقود صغيرة مفصصة من خمسة فصوص، توضع على رقبة القبة.

والقبة النموذجية مشكلة بعقد في وسطها (بداخلها)، وتتشابك في الوجه الشمالي الغربي بميداليتين من أربعة فصوص شملت كلّ مساحة القمة. وأما موضوعات الزخرفة المنحوتة هنا، فهي من حجر المرمر كما هو الشأن في تينمل([35]).

ولا شك في أن خوارج العوارض وقباب الكتبية بنيت بنفس الأسلوب، وأن الحالة الجيدة المحنوطة بها لا تسمح لنا بتعرُّف طريقة بناء القباب، بسبب أن المهندس المعماري الذي صمّم مئذنة الكتبية([36]) لم يسع إلى إزالة المشاكل البنائية الدقيقة.

وإذا كانت مئذنة الكتبية مساوية لمئذنة قرطبة فنياً، فهي تفوقها بأبعادها التي بلغت 110 ذراعٍ من 72 ذراعاً. وعلى الرغم من أن مئذنة قرطبة كانت تعتبر في زمانها أضخم وأجمل مئذنة في الإسلام([37])، ومع أنها مزخرفة في وجه واحد من أوجهها، فالذي لاجدال فيه أن مئذنة قلعة بني حماد بطرازها الزخرفي الفريد تتشابه وتتماثل مع مئذنة الكتبية التي نحن بصدد دراسة وتحليل زخارفها التي تميزت بالثراء والتنوع والدقة المتناهية في أشكالها وعناصرها المكونة لها.

وهذا الموضوع الزخرفي يجرنا إلى البحث في طبيعة زخارف المئذنة العامة.

لعبت الظلال في تقييم هذا التراكب الملون. ونشاهد في أعلى هيكل البرج أن البوائك المحفورة حفراً خفيفاً تنفصل في شكل خطوط دقيقة ومظلمة. ونجد في أسفل الإفريز الرخامي أن الظلال تكون أكثر نعومة وأكثر عمقاً، بحيث تملأ العقود الصغيرة المجتمعة والتي تشغل العقود المتشابكة لتتناقص عند الأعمدة. وهكذا نلاحظ طريقة التلاعب بالظل والضوء اللتين ترافقان تاج المئذنة نفسه([38]).

وسوف نرى أسلوباً فنياً آخر ساد زخارف مئذنة الكتبية، ونعني به الزخارف البارزة ذات النتوءات التي شكلت عنصراً هاماً فيها.

لقد جمعت مئذنة نهاية القرن، بشكل لافت للأنظار تقريباً، الزخارف ذات الحشوات في وحدة متماسكة تتميز بالدقة المتناهية، بحيث نرى العقود (الأقواس) من جديد هابطة بشكل بسيط، ونرى لبعضها الآخر فصاً نهائياً أكثر ارتفاعاً على ربع دائرة مع نتوءات طفيفة في الركن، وهي تتماثل إلى حد ما مع العقود التي وضعت للتجميع تحت القبة (قبتها). وهذا الوضع نجده واضحاً في تينمل، وذلك في الموضوع الزخرفي الرائع في الوجه الجنوبي الشرقي، بحيث نلاحظ انحناء جديداً إلى حد ما، عميقاً أو مضافاً إلى قاعدتها.

وبهذه الوتيرة تصبح متفاوتة أو متجاوزة تجاوزاً طفيفاً.

ولكن الأمر لا يتوقف عند ذلك فحسب، بل إننا نرى في نظامها الزخرفي ظاهرة العقود التي تزيّن الأوجه الأربعة للمئذنة تحت الإفريز الرخامي. وهي من نوع العقود ذوات فصوص أربعة، تسقط مباشرة أو تلتصق بالأعمدة وتيجانها، في حين نجد أن العقدين المائلين للعقد الكبير يمتدان تحت نقطة التقاطع. وبوضعها هذا يرسمان بداية الشبكة أو الصغيرة (المكونة من تقاطع الأقواس)، بينما لا يشكلان البتة رباطاً هندسياً مغلفاً بعد التقاطع الثاني، ثم تأتي الأشرطة المفصصة في النهاية لترسم الإطار العلوي للموضوع الزخرفي أو الوحدة الزخرفية.

وأما الفرعان اللذان يصلان الأركان، وكذا الفروع التي لا تنتهي في الأركان، فلا نجد لها موضعاً في التشابك أو التضافر الذي تحدثه. أما الأشكال المزهرة التي تؤدِّي دوراً رئيساً في تكون الأقواس المتدلية أو النازلة، فتعطي شكلاً هندسياً متجانساً.

فهذا الترابط الهندي الذي يزين الوجوه الأربعة للجوسق (يزري) أو غرفة المؤذن هو أكثر انتشاراً. وهكذا تنحدر في القوس النازل »المقرنصات أو المدليات بشكل غير موضوعي منظم، وهي تقوم على أقواس ذوات فصوص سبعة متساوية«.

تلك العقود أو الأقواس السالفة الذكر لم تكن مستعملة أو مشكلة في حالة منعزلة مزدوجة أو مغلقة، بل كانت تؤلف مع المستطيلات التي تحيط بها إطارات مزينة ومرتبة على حفر متتالية من ثلاثة إلى سبعة. وهكذا نجد بين هذه الحفر (الثقب) فتحات للتهوية وإضاءة الجدران، والتي أدَّت دوراً في تنظيم خيوط الظل([39]).

وخلاصة القول إن مئذنة الكتبية، بهيئتها التي وجدت عليها، تمتاز بتناسق نظام زخارفها وتنوعها الشديد. فقد زينت وفقه جميع أوجهها الأربعة، المتميزة بتباين موضوعاتها الزخرفية من وجه لآخر.

ومن دون شك، يعتبر هذا الأسلوب في زخرفة المآذن جديداً لم يستعمل من قبل، إذ كانت تزين المئذنة من وجه واحد فقط، وهو الوجه المطل على الصحن([40]).

وقوام هذا النظام الزخرفي ستة شبابيك في البدن أو البرج الرئيس، وشباكان في الجوسق (البرج العلوي الصغير). وهناك العقود المتنوعة المتكونة من سبعة فصوص أو سبعة عشر فصاً. وقد ساد استعمال هذا النوع من العقود في الواجهة الشمالية الشرقية.

واستعملت في الواجهة الشمالية الغربية عقود من خمسة عشر فصاً، بينما اقتصر استعمال العقود نصف المستديرة بالتناوب والجنوبية الغربية. وفي الجزء العلوي العقود المتعددة الفصوص المتشابكة في كل أوجه المئذنة. ونجد في الواجهة الشمالية والجنوبية الغربية عقوداً مسننة، وعقود صغيرة متنوعة الفصوص تتشابك وتتداخل لتشكل شبكة من المعينات في كل أوجه المئذنة، ذوات زخارف متنوعة. وهذا النمط الجديد من الزخرفة بالمعينات يعتبر من خصائص طراز الموحدية في الفن الإسلامي. ويمكن مشاهدته خصوصاً في مئذنة جامع القصبة بمراكش وحسان بالرباط. وقد انتقلت هذه الزخرفة إلى مباني الزيانيين والمرينيين فيما بعد، إذ استعملت بشكل لافت للأنظار في المسجد الجامع بتلمسان ومساجد سيدي بلحسن وسيدي إبراهيم وأبي مدين والحلوني. وفضلاً عن ذلك، أدّت زخرفة الزليج دوراً مهماً في إثراء المنظر الخارجي لمئذنة الكتبية، حيث غطت القسم الأعلى منها، والشرفات المسننة، والبرج الرئيس، أي بدن المئذنة، والجوسق الذي ينتهي بقبة مضلعة يعلوها جامور؛ كما تزين أوجه بيت المؤذن عناصر من المشبكات، تقطعها خيوط مقوسة في اتجاهات متوازية([41]).

ونخلص مما سبق عرضه إلى أن مئذنة الكتبية، بما انطوت عليه من تخطيط وبناء وزخرفة، تعتبر فعلاً من أجمل مبتكرات الفن الإسلامي.

-----------

([1]) للتعرف أكثر على خصائص هذا المعلم الديني المعمارية والفنية، أنظر:

H. Terrasse. et H. Basset, Sanctuaires et forteresses almohades, Collection Héspéris, Vol. 7, 1932, Paris; H. Terrasse, L'Art hispano-mauresque. Des origines au XIIe siécle, Paris, 1932; J. Meunié, Recherches archéologiques à Marrakech, Paris, 1952; G. Deverdun, Marrakech. Des origines à 1912, T. I, Rabat, 1959; G. Marçais, L'architecture musulmane d'Occident, Paris, 1954;

F. Lambert, L'Art musulman d'Occident, Paris, 1966.

([2]) الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق علوش، الرباط، 1936، ص. 108.

([3]) أول مقصورة أنشئت في تاريخ العمارة الدينية الإسلامية مقصورة معاوية بن أبي سفيان بدمشق القرن الأول الهجري.

([4]) الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، المصدر السابق، ص. 108.

([5]) مؤلف مجهول، الاستبصار في عجائب الأمصار، تحقيق عبد الحميد زغلول، الإسكندرية، 1958، ص. 209.

([6]) ولكن هناك من الباحثين الغربيين من ينسب بناء جامع الكتبية الحالي إلى أبي يوسف يعقوب المنصور (انظر: Terrasse et Basset في مؤلفهما: Sanctuaires..., p. 102).

([7]) Op. cit., p. 106.

([8]) G. Deverdun, Marrakech. Des origines à 1912 (chapitre: le Métropole Almade); J. Meunié, Recherches archéologiques à Marrakech. Fouilles aux abords de la Koulonbia, pp. 31-61.

([9]) G. Marçais, «Manuel d'art musulman», L'architecture, éd. Auguste Picard, 1926, Vol. 1, Paris, pp. 21-22.

([10]) عثمان إسماعيل، تاريخ العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى (عصر الموحدية)، الرباط، 1993، ج 3، صص. 190 - 195.

([11]) Terrasse et Basset, op. cit..., p. 25.

([12]) انظر: Terrasse et Basset, op. cit..., pp. 87-89.

([13]) Ibid., p. 98.

([14]) Ibid., pp. 87-90.

([15]) H. Terrasse, L'Art hispano - mauresque..., pp. 309-310.

([16]) Op. cit., p. 310.

([17]) عثمان إسماعيل، تاريخ العمارة والفنون التطبيقية...، المرجع السابق، ج 3، ص. 195.

([18]) جوميث مورينو، الفن الإسلامي في إسبانيا، ترجمة سالم عبد العزيز ولطفي عبد العزيز، القاهرة، 1968، ص. 352.

([19]) لمزيد من تعرُّف معالم المئذنة، انظر: صالح بن قربة، المئذنة المغربية الأندلسية في العصور الوسطى، الجزائر، 1986، ص. 50 وما بعدها.

H. Terrasse et H. Basset, Sanctuaires..., pp. 87-106; Dury Carel, Art of Islam, éd. N. Y., 1970, p. 126.

([20]) Terrasse et Basset, Sanctuaires..., pp. 106-107; E. Lambert, L'Art musulman d'Occident, Paris, 1966, p. 121.

([21]) L. Golvin, Essai sur l'architecture religieuse musulmane, éd. Klincksieck, Paris, 1979, T. IV, p. 276.

([22]) الجامور (جمع جوامير): هو العود الذي ينصب أعلى المئذنة (أي صومعة الصومعة). ويسمى »الجامور« في مصطلح العمارة المغربية باسم »العزري«.

([23]) R. Bourouiba, Abdel Mumin. Flambeau des Almohades, 2ème éd. (S.N.E.B), Alger, 1982, p. 124.

([24]) Terrasse et Basset, op. cit.

([25]) رشيد بورويبة، عبد المؤمن بن علي سواج الموحدين، سلسلة فن وثقافة، الجزائر، 1976،

ص. 116؛ صالح بن قربة، المئذنة المغربية الأندلسية، المرجع السابق، ص. 52.

([26]) انظر: Terrasse et Basset, op. cit., p. 107

([27]) أي غرفة المؤذن التي تغطيها قبة يعلوها عمود (جامور) نصبت عليه ثلاث تفافيح (انظر: عبد الهادي التازي، »حياة كلمة الجامور«، دعوة الحق، عدد 367، 2002، صص. 89 - 95).

([28]) G. Marçais, L'Architecture musulmane d'Occident, p. 210.

([29]) Terrasse et Basset, Sanctuaires..., pp. 175-176.

([30])Terrasse, L'Art hispano-mauresque, p. 323.

([31]) لمزيد من التفاصيل عن هذا العنصر الزخرفي، راجع:

G. Marçais et William, Les monuments arabes de Tlemcen, Paris, 1903,

p. 117. Fig 19.

([32]) من الدراسات التي تناولت بدقة أوجه الشبه والاختلاف عناصر الزخرفة في المآذن المغربية:

G. Marçais, Manuel d'art musulman, Vol. 1, pp. 394-403;

صالح بن قربة، المئذنة المغربية الأندلسية، المرجع السابق، صص. 54 - 60.

([33]) Terrasse et Basset, op. cit., pp. 179-180.

([34]) Ibid., p. 180.

([35]) Ibid., p. 323.

([36]) Ibid., p. 181.

([37]) Ibid., p. 321.

([38]) Ibid., p. 323.

([39]) Ibid., p. 324.

([40]) المآذن التي كانت تزين من جهة واحدة هي: القيروان، صفاقس قلعة بني حماد.

([41]) توريس بالباس، الفن المرابطي والموحدي (مترجم)، صص. 26 - 27.

أنظر مجلة التاريخ العربي، عدد:30.